فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} استئناف للتعجيب من حالهم حين يقعون يوم القيامة في العذاب على ما استداموه من الكفر الذي جرّأهم على استدامته اعتقادهم نفي البعث فذاقوا العذاب لذلك، فتلك حالة يستحقّون بها أن يقال فيهم: قد خسِروا وخابوا.
والخسران تقدّم القول فيه عند قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} في هذه السورة [12].
والخسارة هنا حرمان خيرات الآخرة لا الدنيا.
والذين كذّبوا بلقاء الله هم الذين حكي عنهم بقوله: {وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا} فكان مقتضى الظاهر الإضمار تبعًا لقوله: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} [الأنعام: 27] وما بعده، بأن يقال: قد خسروا، لكن عُدل إلى الإظهار ليكون الكلام مستقلًا وليبنى عليه ما في الصلة من تفصيل بقوله: {حتّى إذا جاءتهم الساعة بغتة} إلخ.
ولقاء الله هو ظهور آثار رضاه وغضبه دون تأخير ولا إمهال ولا وقاية بأسباب عادية من نظام الحياة الدنيا، فلمّا كان العالم الأخروي وهو ما بعد البعث عالم ظهور الحقائق بآثارها دون موانع، وتلك الحقائق هي مراد الله الأعلى الذي جعله عالم كمال الحقائق، جعل المصير إليه مماثلًا للقاء صاحب الحق بعد الغيبة والاستقلال عنه زمانًا طويلًا، فلذلك سمّي البعث ملاقاة الله، ولقاء الله ومصيرًا إلى الله، ومجيئًا إليه، في كثير من الآيات والألفاظ النبوية، وإلاّ فإنّ الناس في الدنيا هم في قبضة تصرّف الله لو شاء لقبضهم إليه ولعجّل إليهم جزاءهم.
قال تعالى: {ولو يعجِّل الله للنّاس الشرّ استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم} [يونس: 11].
ولكنّه لمّا أمهلهم واستدرجهم في هذا العالم الدنيوي ورغّب ورهّب ووعَد وتوعّد كان حال الناس فيه كحال العبيد يأتيهم الأمر من مولاهم الغائب عنهم ويرغّبهم ويحذّرهم، فمنهم من يمتثل ومنهم من يعصي، وهم لا يلقون حينئذٍ جزاء عن طاعة ولا عقابًا عن معصية لأنّه يملي لهم ويؤخّرهم، فإذا طوي هذا العالم وجاءت الحياة الثانية صار الناس في نظام آخر، وهو نظام ظهور الآثار دون ريث، قال تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضرًا} [الكهف: 49]، فكانوا كعبيد لقُوا ربّهم بعد أن غابوا وأمهلوا.
فاللقاء استعارة تمثيلية: شبّهت حالة الخلق عند المصير إلى تنفيذ وعد الله ووعيده بحالة العبيد عند حضور سيِّدهم بعد غيبة ليجزيهم على ما فعلوا في مدّة المغيب.
وشاع هذا التمثيل في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه»، وفي القرآن {ليُنْذر يوْمَ التَّلاقِي} [غافر: 15].
وقوله: {حتّى إذا جاءتهم الساعة بغتة} {حتّى} ابتدائية، وهي لا تفيد الغاية وإنّما تفيد السببية، كما صرّح به ابن الحاجب، أي فإذا جاءتهم الساعة بغتة.
ومن المفسّرين من جعل مجيء الساعة غاية للخسران، وهو فاسد لأنّ الخسران المقصود هنا هو خسرانهم يوم القيامة، فأمّا في الدنيا ففيهم مَن لم يخسر شيئًا.
وقد تقدّم كلام على (حتّى) الابتدائية عند قوله تعالى: {وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك} في هذه السورة [25].
وسيجيء لمعنى (حتى) زيادة بيان عند قوله تعالى: {فمن أظلم ممّن افترى على الله كذبًا أو كذّب بآياته} إلى قوله: {حتّى إذا جاءتهم رسلنا} في سورة [الأعراف: 37].
والساعة: علَم بالغلبة على ساعة البعث والحشر.
والبغتة فعلة من البَغْت، وهو مصدر بغتَه الأمر إذا نزل به فجأة من غير ترقّب ولا إعلام ولا ظهور شبح أو نحوه.
ففي البغت معنى المجيء عن غير إشعار.
وهو منتصب على الحال، فإنّ المصدر يجيء حالًا إذا كان ظاهرًا تأويلُه باسم الفاعل، وهو يرجع إلى الإخبار بالمصدر لقصد المبالغة.
وقوله: {قالوا} جواب (إذا).
و{يا حسرتنا} نداء مقصود به التعجّب والتندّم، وهو في أصل الوضع نداء للحسرة بتنزيلها منزلة شخص يسمع ويُنادي ليحضُر كأنّه يقول: يا حسرة احضري فهذا أوان حضورك.
ومنه قولهم: يا ليتني فعلت كذا، ويا أسفي أو يا أسفًا، كما تقدّم آنفًا.
وأضافوا الحسرة إلى أنفسهم ليكون تحسّرهم لأجل أنفسهم، فهم المتحسّرون والمتحسَّر عليهم، بخلاف قول القائل: يا حسرة، فإنّه في الغالب تحسّر لأجل غيره فهو يتحسّر لحال غيره.
ولذلك تجيء معه (على) التي تدخل على الشيء المتحسّر من أجله داخلة على ما يدلّ على غير التحسّر، كقوله تعالى: {يا حسرة على العباد} فأمّا مع (يا حسرتي أو يا حسرتا) فإنّما تجيء (على) داخلة على الأمر الذي كان سببًا في التحسّر كما هنا {على ما فرطنا فيها}.
ومثل ذلك قولهم: يا ويلي ويا ويلتِي، قال تعالى: {ويقولون يا ويلتنا} [الكهف: 49]، فإذا أراد المتكلِّم أنّ الويل لغيره قال: ويْلك، قال تعالى: {ويلك آمنْ} [الأحقاف: 17] ويقولون: ويل لك.
والحسرة: الندم الشديد، وهو التلهّف، وهي فَعْلة من حِسر يحْسَر حَسْرًا، من باب فرح، ويقال: تحسّر تحسّرًا.
والعرب يعاملون اسم المرّة معاملة مطلق المصدر غير ملاحظين فيه معنى المرّة، ولكنّهم يلاحظون المصدر في ضمن فرد، كمدلول لام الحقيقة، ولذلك يحسن هذا الاعتبار في مقام النداء لأنّ المصدر اسم للحاصل بالفعل بخلاف اسم المرّة فهو اسم لفرد من أفراد المصدر فيقوم مقام الماهية.
و{فَرّطنَا} أضعنا.
يقال: فرّط في الأمر إذا تهاون بشيء ولم يحفظه، أو في اكتسابه حتى فاته وأفلت منه.
وهو يتعدّى إلى المفعول بنفسه، كما دلّ عليه قوله تعالى: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38].
والأكثر أن يتعدّى بحرف (في) فيقال فرّط في ماله، إذا أضاعه.
و{مَا} موصولة ماصْدَقُها الأعمال الصالحة.
ومفعول {فرّطنا} محذوف يعود إلى {مَا}.
تقديره: ما فرّطناه وهم عامّ مثل معاده، أي ندمنا على إضاعة كلّ ما من شأنه أن ينفعنا ففرّطناه، وضمير {فيها} عائد إلى الساعة.
وفي تعليلية، أي ما فوّتناه من الأعمال النافعة لأجل نفع هذه الساعة، ويجوز أن يكون {في} للتعدية بتقدير مضاف إلى الضمير، أي في خيراتها.
والمعنى على ما فرّطنا في الساعة، يَعْنُونَ ما شاهدوه من نجاة ونعيم أهل الفلاح.
ويجوز أن يعود ضمير {فيها} على الحياة الدنيا، فيكون في للظرفية الحقيقية. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن المراد من قولهم يا حسرتنا على ما فرطنا فيها إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب، وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب العظيم، ولا شك أن ذلك نهاية الخسران.
قال ابن عباس: الأوزار الآثام والخطايا قال أهل اللغة الوزر الثقل وأصله من الحمل يقال وزرت الشيء أي حملته أزره وزرا، ثم قيل للذنوب أوزار لأنها تثقل ظهر من عملها، وقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] أي لا تحمل نفس حاملة.
قال أبو عبيدة: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع أحمل وزرك وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ووزير السلطان الذي يزر عنه أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية أي يحمل.
قال الزجاج: وهم يحملون أوزارهم أي يحملون ثقل ذنوبهم، واختلفوا في كيفية حملهم الأوزار فقال المفسرون: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحًا ويقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا} [مريم: 85] قالوا ركبانًا وأن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحًا فيقول: أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم فذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} وهذا قول قتادة والسدي.
وقال الزجاج: الثقل كما يذكر في المنقول، فقد يذكر أيضًا في الحال والصفة يقال: ثقل على خطاب فلان، والمعنى كرهته فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم.
وقال آخرون: معنى قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} أي لا تزايلهم أوزارهم كما تقول شخصك نصب عيني أي ذكرك ملازم لي.
ثم قال تعالى: {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} والمعنى بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه والاستقصاء في تفسير هذا اللفظ مذكور في سورة النساء في قوله: {وَسَاء سَبِيلًا} [سورة النساء: 22]. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} الأوزار الخطايا والآثام قاله ابن عباس، والظاهر أن هذا الحمل حقيقة وهو قول عمير بن هانئ وعمرو بن قيس الملائي والسدي واختاره الطبري، وما ذكره محصوله أن عمله يمثل في صورة رجل قبيح الوجه والصورة خبيث الريح فيسأله فيقول: أنا عملك طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فيركبه ويتخطى به رقاب الناس ويسوقه حتى يدخله النار، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى واللفظ مختلف.
وقيل: هو مجاز عبر بحل الوزر عن ما يجده من المشقة والآلام بسبب ذنوبه، والمعنى أنهم يقاسون عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل عليهم وهذا القول بدأ به ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره قال كقوله: {فبما كسبت أيديكم} لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي والواو في {وهم} واو الحال وأتت الجملة مصدرة بالضمير لأنه أبلغ في النسبة إذ صار ذو الحال مذكورًا مرتين من حيث المعنى وخص الظهر لأنه غالبًا موضع اعتياد الحمل ولأنه يشعر بالمبالغة في ثقل المحمول إذ يطيق من الحمل الثقيل ما لا تطيقه الرأس ولا الكاهل، كما قال: {فلمسوه بأيديهم} لأن اللمس أغلب ما يكون باليد ولأنها أقوى في الإدراك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} أي ذنوبهم جمع وِزر.
{على ظُهُورِهِمْ} مجاز وتوسّع وتشبيه بمن يحمل ثِقْلًا؛ يقال منه: وَزَرَ يَزِر، ووَزِرَ يُوزَر فهو وازر ومَوْزور؛ وأصله من الوَزَر وهو الجبل.
ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة: «ارجعن مَوْزوراتٍ غيرَ مأجورات» قال أبو عبيد: والعامة تقول: «مأزورات» كأنه لا وجه له عنده؛ لأنه من الوِزر.
قال أبوعبيد: ويقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع احمل وِزْرك أي ثِقْلك.
ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يُسنَد إليه من تدبير الولاية: والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها.
{أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي ما أسوأ الشيء الذي يحملونه. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} آثامهم وأفعالهم.
قال أبو عبيد: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع: احمل وزرك ووزرتك واشتقاقه من الوزر الذي يعتصم به ولهذا قيل: وزر لأنّه كأنّه الذي يعتصم به الملك أو النبي ومنه قوله تعالى: {واجعل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} [طه: 29- 30] {على ظُهُورِهِمْ}.
قال السدي وعمرو بن قيس الملائي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيب ريحًا، يقول: هل تعرفني؟ يقول: لا، إلاّ أن اللّه عز وجل قد طيب ريحك وحسّن صورتك، فيقول: كذلك كتب في الدنيا أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني اليوم أنت.
وقرأ {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا} [مريم: 85] أي ركبانًا، فإن الكافر تستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحًا فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلاّ أن اللّه عز وجل قد قبح صورتك وأنتن ريحك، فيقول: لما كان عملك في الدنيا، أنا عملك السيء طالما ركبتني في المساء فأنا أركبك اليوم وذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ}.
قال الزجاج: لا يزر إليهم أوزارهم، كما يقول الضحّاك: نصب عيني وذكرك محيي قلبي {أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي يحملون ويعملون. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} يعني: آثامهم {على ظُهُورِهِمْ} يعني: إنهم يحملون آثامهم.
وروى أسباط عن السدي قال: ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلا آتاه ملك قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الريح، عليه ثياب دنسة، فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك فيقول: كذلك كان عملك قبيحًا.
فيقول ما أنتن ريحك فيقول: كذلك كان عملك منتنًا.
فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك.
فيكون معه في قبره.
فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، فأنت اليوم تحملني.
فيركب على ظهره حتى يدخله النار.
قال: وذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} وذلك على سبيل المجاز يعني: يحملون وبال ذلك على ظهورهم وعقوبته.
ويقال: وقرت ظهورهم من الآثام.
ثقلت وحملت، وأصل الوزر في اللغة: هو الثقل ثم قال: {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} يعني: يحملون. اهـ.